" هدية أم "
في الذكرى الأولى لوفاة والديّ (قصة أم أهدت إحدى عينيها لابنها فاقد النظر)
ياعيدُ لولا الهوى ما هزّني خبرُ ولا همى مُسرعاً من مقلتي العَبَرُ
لكن ذكرى لها في القلبِ منزلةٌ يهفو الفؤادُ لها دوماً ويستعرُ
فأيُّ حُبٍّ كحبِّ الأمِ يغمرُني وأيُّ ذكرى كذكراها لها الأثرُ
قُمْ وَفِّ أمكَ تقديساً وتكرمةً في قلبها الله في تحنانها القدرُ
* * * *
هذي سعادُ مثالُ الأمّ قصتها تفوحُ بالطيبِ في الدنيا وتنتشرُ
أمٌّ يُخالُ بأنَّ النجمَ مبسمها وينتشي من شذاها الروض والوترُ
والأعينُ النجْلُ كم من بلبلٍ ثملٍ غنى لها عَجِباً أو صفقَ الشجرُ
أمٌّ لطفلٍ رصاصُ الغدرِ أفقدهُ بريقَ عينينِ لا نجمٌ ولا دررُ
وبعلها ضيغمٌ لم يلقَ مصرعهُ حتى ارتوى بدما أعدائه الزهرُ
فرّا عن الأرضِ صارا لاجئين فما عاد يهزهما عودٌ ولا سَمَرُ
عاشا وحيدين في الدنيا يضمهما بيتٌ صغيرٌ لنورِ الشمسِ يفتقرُ
* * * *
تغدو سعاد مع الأطيارِ باكرةً فالصبحُ من نفحها صبحٌ له عطرُ
تغدو إلى الحقل فالأوراد تائهةٌ والزهر والعشب من أنفاسها سكرُ
تلملمُ الوردَ والأزهارَ تجمعها باقات مثل نجوم الليل تزدهرُ
تبيع ما جمعتْ في السوق من زَهَرٍ يسدُّ حاجاتها قسمٌ وتدّخرُ
وطفلها سارحٌ في الحي ملعبهُ أو قابعٌ في زوايا البيت ينتظرُ
* * * *
صارَ الصغيرُ غلاماً يكتوي ألماً إن فتية الحيّ من تشويهه سخروا
حتى أطلّ صباحٌ مُشرقٌ سَمِحٌ يُذكي الحياةَ بمن في نفسه كَدَرُ
جاء الغلام ُ إلى أحضانِ ربتهِ كتائهٍ بانَ في بيدائهِ بَشَرُ
والدمعُ قد خالط الأنفاس فاضطربتْ ألفاظهُ وسرى في نُطقه خدرُ
يا أمّ إني سمعتُ اليوم معجزةً في الدير آسٍ له من فعله عِبَرُ
يعيدُ ياأمّ لي حسني ولي بصري إني إلى النور يا أمّاه انفطرُ
ضمتهُ بين يديها شبه تائهة لصدر أمّ كوهج الجمر يستعرُ
تحنو عليه بصوتٍ ناعمٍ شَجِنٍ يُبكي لرقته الجان ُ والبشرُ
لبيك يا كبدي ياروح في جسدي يا مشعلَ النور في الظلماء يا قمرُ
لا عشتُ عمري إذا أحجمت عن طلبٍ حتى النجوم إذا أحببت يا " عُمَرُ"
* * * *
سارا إلى الدير والأفكار شاردةٌ والحلم يحدوهما حيناً ويندثرُ
حتى أطلا على دَيْرٍ هياكلهُ شيخٌ أطاحا به ؛ الهمُ والكِبَرُ
وفيه آسٍ تشعّ النورَ طلعتُهُ كَهْلٌ وقورٌ كَمَنْ غَنَتْ به العُصُرُ
* * * *
حيّا الطبيبَ بصوتٍ ملؤه الشَجَنُ والدمعُ منْ مُؤقِ عينِ الأمّ ينحدرُ
قال الطبيبُ وقدْ رقَّتْ جوارحهُ من شجو صوتٍ به الآلامُ تُعتصَرُ
لما البكاء فهاتي أخبريني بما أُصِيبَ طفلك يا أختي وما الخَبَرُ
فزمجرتْ مثلَ ليثِ الغابِ وانتفضتْ كلبوةٍ حاقَ في أولادها خطرُ
ابني .. أبوه بأرض القدس قد صُرِعا ليثٌ علتْ روحهُ والآخرُ النظرُ
أرضعتهُ الثورةَ العرْباءَ صافيةً منْ ثدي أمّ بحدِّ السيفِ تفتخرُ
حتى يكونَ بيومِ الروعِ أغنيةً فالكرمُ يذكرُهُ والدارُ تنتظرُ
سما الطبيبُ فخوراً عندَ مسمعهِ هذا الكلام وماجَ النهرُ والشجرُ
أخت الرجالِ حماكِ اللهُ من كَدَرٍ وأشرقَ المجدُ في الأوطانِ والظَفَرُ
إنْ شئتِ أن يُبصرَ الدنيا فليس له إلاّ عيون امرئ ما مسّها ضَرَرُ
فأنتِ يا أختُ في سنٍّ مُبكرةٍ ما زلتِ ريانةً أزواجُكِ كُثُرُ
عيناكِ أجمل رسْمٍ خطّض خالقنا بحرانِ قد يُشدها الرائي فينتحرُ
إني لأخشى إذا ما مُسَّ حسنهما أنْ ينطفي كوكبٌ أو يختفي السَحَرُ
أجابت الأمُّ في عزْمٍ وفي شَمَمٍ كأنها الطودُ لا خوفٌ ولا حذَرُ
هذي عيوني فافعلْ ما تشاءُ بها القلبُ يرخصُ والأبصارُ والعمرُ
القسمةُ العدلُ حتى في نواظرها من عطفها فهما : الشمسُ والقمرُ
* * * *
أمي .. أبي هذه الأعيادُ عيدكما الروضُ يبكيكما والأنجمُ الزُهُرُ
قلبي كبيرٌ يضمُّ الناسَ أجمعهمْ حبّاً .. وإني لفضلِ الأمِّ أغتفرُ
السويداء 1960